الإعلام الموضوعى هو الواعى بخطورة ما يؤديه من رسالة تستهدف التنوير وبناء وعي حقيقي ومساندة الدولة لعبور الأزمات، والتركيز على الإنجازات والتنبيه في الوقت ذاته لمواطن القصور والسلبيات، وتوخى المهنية والموضوعية مع السبق والتميز فلا يقنع في النهاية إلا المقنع، ولابد من احترام عقل المتلقى، فالالتزام بالمعايير الموضوعية الضابطة للأداء الإعلامي، يرتقي بالمهنة ويحقق لها المصداقية والانتشار ويجذب إليها جمهورًا جديدًا ويعصمها من الانفلات..وليس أقدر على الالتزام بتلك المعايير من أهل التخصص؛ فأهل مكة أدرى بشعابها.
الإعلام الموضوعي هو نبض الوطن وضميره وهو الذي يقدّم للناس ما يحتاجونه لا ما يحبونه.. فمتى يتجرّد أصحاب الكلمة — من كتّاب وصنّاع محتوى على منصّات التواصل — لوجه الحق، فيتكلمون في أولويات اللحظة، لا في هوامشها، ويُنشئون وعيًا يبني ولا يبدّد، ويجمع ولا يشتت؟
ومتى ندرك أن الأمة لا تنهض إلا بوحدة الصف، وقوة العلم، وارتفاع الإنتاج، وصدق الفهم للدين — لا التشبّث بالمظاهر والشكليات بينما جوهر المعاملات مُهترئ لا يبعث على الطمأنينة؟
هذه الأسئلة ليست مدخلًا بل هي القضية نفسها؛ لأن الخلل في بنية الوعي يبدأ حين يتصدّر الخطاب الإعلامي ــ الفضائي منه والرقمي ــ مساحات واسعة من الحياة العامة دون أن يرافقه وازع مسئولية أو رادع ضمير أو رؤية تنم عن علم وفهم وحرص على الصالح العام وليس مجرد التوجيه والانحياز.
الإعلام بين الحاجة والرغبة
أخطر ما ابتُليت به المجتمعات الحديثة أن كثيرًا من إعلامها لم يعد يقدم ما يحتاجه الناس، بل ما يحبّون سماعه؛ والحب — في لحظة الانفعال — ليس معيارًا للحق، بل أحيانًا بوابة واسعة للضلال.
فالناس تميل إلى ما يُريحهم، لا ما يُصلحهم، وتنساق إلى ما يُسلّيها، لا ما ينهض بها. وهنا يظهر الفساد الأخطر: فساد الوعي.
فالفارق بين إعلام يحترم الناس، وآخر يستغل مشاعرهم، كالفارق بين طبيب يصف دواءً شافيًا، وبائع وهم يروّج مسكنات خادعة. الأول يبني الصحة، والثاني يؤجل الموت.
منابر تلهو… ومجتمع يدفع الثمن
لقد شهدت مصر — كما شهد العالم العربي — غداة أحداث يناير 2011 وما بعدها كيف تحوّلت بعض المنابر الإعلامية إلى غرف صدى، تغذّي الغضب، وتضخّم الخلافات الصغيرة، وتثير الفتن، وتوزّع الاتهامات بجرأة لا تُعبّر عن شجاعة، بل عن غياب الحسّ الأخلاقي.
وما أسهل أن يشتعل الشارع بكلمة، وأن تنزلق الأمة في لحظة من لحظات الاندفاع إلى فوضى لا تُطاق، لولا وعي الشعب في لحظات فارقة كان آخرها ما شهدناه في 30 يونيو، حين توحّد الناس على كلمة الحق لإيقاف خطرٍ كان يمكن أن يعصف بالجميع.
إن التجربة علّمتنا أن الكلمة قد تكون أخطر من الرصاصة؛ لأنها لا تجرح الجسد فقط، بل تجرح العقل، وتشوه الوعي، وتحرف الاتجاهات.
تكريم من لا يصنعون الوعي… وتغييب من يحرسونه
ورغم هذا كله، تكاد بوصلة التكريم تنحرف؛ فالأضواء تسلط على نجوم الفن والرياضة، بينما يتوارى المفكرون، والمصلحون، وأصحاب الأقلام التي دفعت أثمانًا باهظة في مواجهة التطرف والفساد والشائعات.
هؤلاء هم حماة الوعي الحقيقي، الذين يحملون مشاعل التنوير في زمن تتكاثر فيه الشاشات ويقلّ فيه النور.
لكن هل يُعقل أن يُنسى هؤلاء بينما يتصدر السطحية المشهد؟
أليس من حق المجتمع أن يعرف من يدافع عنه بالفكرة، لا بالضجيج؟
أليس من الواجب أن يُكرّم أصحاب الرأي الصادق، لا أصحاب المشاهدات العالية؟
مسئولية الدولة… ومسئولية المجتمع
أدرك الرئيس السيسي مبكرًا خطورة الكلمة، فدعا الإعلام إلى التحلي بالمسئولية الأخلاقية قبل المهنية، وإلى حماية وعي الناس من موجات الشائعات التي تستهدف الجبهة الداخلية، وإلى تقديم خطاب يشرح، ويُفسّر، ويُنوّر، لا أن يترك الناس في فراغ معرفي يملؤه أي صوت آخر مهما يكن مضللًا.
لكن دور الدولة — مهما كان مهمًا — لا يكفي وحده؛ فالمجتمع ذاته هو الذي يحمي وعيه، وعقل المواطن هو الساتر الأول ضد التضليل.
وهذا لن يتحقق إلا حين يُدرك كل كاتب وصانع محتوى أن الكلمة ليست ترفًا، ولا وسيلة للشهرة، ولا مشروعًا للربح، بل أمانة تكتب في صحائف الأعمال قبل أن تُكتب على الشاشات.
جوهر الدين… لا شكليات التدين
ومن أخطر ما نراه اليوم أن البعض يصنع محتوى دينيًا شكليًا، يركّز على مظهر العبادات، ويغفل جوهر الأخلاق والمعاملات.
يُدين الناس بصوت مرتفع، لكنه لا يُعلّمهم الصدق والأمانة والإتقان واحترام الوقت والواجب.
وهنا يتحوّل الدين إلى طقوس بلا روح، ومشاهد بلا معنى، وخطاب لا يربّي مجتمعًا ولا يبني إنسانًا.
نحو إعلام ينهض بالأمة
لقد آن الأوان أن نعيد ترتيب الأولويات:
إعلام يحترم العقول، لا يستخف بها.
إعلام يشرح الحقائق، لا يجمّل الزيف.
إعلام يبني الوعي، لا يشوّش عليه.
إعلام يعالج القضايا الكبرى — التعليم، الإنتاج، الانضباط، قيم العمل، الأمن الفكري — لا يضيع الوقت في معارك وهمية.
فهل نملك الشجاعة لبدء هذا الإصلاح؟ وهل تتضافر الجهود حقًا لاستعادة الإعلام دوره التاريخي؟
وهل نُدرك جميعًا — دولة وشعبًا وكتّابًا وصنّاع محتوى — أن الأمة لا تنهض إلا إذا استقام لسانها الأول: الكلمة؟
إنه سؤال مفتوح…
ومصير أمة كاملة ينتظر إجابته.